فصل: خلافة يزيد بن معاوية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة يزيد بن معاوية:

ابنه وهو ثاني خلفائهم، وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكليبة، بويع بالخلافة لما مات أبوه في رجب سنة ستين، ولما استقر يزيد في الخلافة، أرسل إلى عامله بالمدينة بإلزام الحسين وعبد الله بن الزبير وابن عمر بالبيعة، فأما ابن عمر فقال: إن أجمع الناس على بيعته بايعته، وأما الحسين وابن الزبير فلحقا بمكة، ولم يبايعا، وأرسل عامل المدينة جيشاً مع عمرو بن الزبير، أخي عبد الله بن الزبير، وكان شديد العداوة لأخيه عبد اللّه، لقتال أخيه عبد الله، فانتصر عبد الله بن الزبير، وهزم الجمع الذي مع أخيه، وأمسك أخاه عمراً وحبسه حتى مات في حبسه.
مسير الحسين إلى الكوفة:
وورد على الحسين مكاتبات أهل الكوفة، يحثونه على المسير إليهم ليبايعوه، وكان العامل عليها النعمان بن بشير الأنصاري، فأرسل الحسين إلى الكوفة، ابن عمه مسلم بن عقيلٍ بن أبي طالب، ليأخذ البيعة عليهم، فوصل إلى الكوفة، وبايعه بها قيل ثلاثون ألفاً، وقيل ثمانية وعشرون ألف نفس.
وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه، فولى على الكوفة عبيد الله بن زياد، وكان والياً على البصرة، فقدم الكوفة، ورأى ما الناس عليه، فخطبهم وحثهم على طاعة يزيد بن معاوية، واستمر مسلم بن عقيل عند قدوم عبيد الله بن زياد على ما كان، ثم اجتمع إلى مسلم بن عقيل من كان بايعه للحسين، وحصروا عبيد الله بن زياد بقصره، ولم يكن مع عبيد اللّه في القصر أكثر من ثلاثين رجلاً، ثم إن عبيد الله أمر أصحابه أن يشرفوا من القصر، ويمنّوا أهل الطاعة، ويخذلوا أهل المعصية، حتى أن المرأة ليأتي ابنها وأخاها فتقول: انصرف إن الناس يكفونك، قتفرق الناس عن مسلم، ولم يبق مع مسلم غير ثلاثين رجلاً، فانهزم واستتر، ونادى منادي عبيد الله ابن زياد، من أتى بمسلم بن عقيل فله ديته، فأمسك مسلم وأُحضر إليه، ولما حضر مسلم بين يدي عبيد اللّه، شتمه وشتم الحسين وعلياً، وضرب عنقه في تلك الساعة، ورميت جيفته من القصر، ثم أحضر هانئ بن عروة، وكان ممن أخذ البيعة للحسين، فضرب عنقه أيضاً، وبعث برأسيهما إلى يزيد بن معاوية، وكان مقتل مسلم بن عقيل، لثمان مضين من ذي الحجة، سنة ستين.
وأخذ الحسين وهو بمكة في التوجه إلى العراق، وكان عبد الله بن عباس يكره ذهاب الحسين إلى العراق، خوفاً عليه، وقال للحسين: يا ابن العم، إني أخاف عليك أهل العراق، فإنهم قوم أهل غدر، وأقم بهذا البلد، فإنك سيد أهل الحجاز، وإن أبيت إلا أن تخرج، فسر إلى اليمن، فإن بها شيعة لأبيك، وبها حصون وشعاب.
فقال الحسين: يا ابن العم، إني أعلم والله أنك ناصح مشفق، ولقد أزمعت وأجمعت، ثم خرج ابن عباس من عنده، وخرج الحسين من مكة يوم التروية، سنة ستين، واجتمع عليه جمائع من العرب، ثم لما بلغه مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه، وأعلم الحسين من معه بذلك وقال: من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً، ولما وصل الحسين إلى مكان يقال له سراف، وصل إليه الحر، صاحب شرطة عبد الله بن زياد في ألفي فارس، حتى وقفوا مقابل الحسين، في حرّ الظهيرة، فقال لهم الحسين: ما أتيت إلا يكتبكم، فإن رجعتم رجعت من هنا، فقال له صاحب شرطة ابن زياد: إنا أُمرنا أن لا نفارقك. حتى نوصلك الكوفة بين يدي عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أهون من ذلك، وما زالوا عليه حتى سار مع صاحب شرطة ابن زياد.
ثم دخلت سنة إحدى وستين.
مقتل الحسين:
ولما سار الحسين مع الحر، ورد كتاب من عبيد الله بن زياد إلى الحر، يأمره أن يُنزل الحسين ومن معه على غير ماء، فأنزلهم في الموضع المعروف بكربلاء، وذلك يوم الخميس، ثاني المحرم من هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين.
ولما كان من الغد، قدم من الكوفة عمر بن سعد بن أبي وقاص بأربعة آلاف فارس، أرسله ابن زياد لحرب الحسين، فسأله الحسين في أن يُمكَّن إما من العود من حيثُ أتى، وإمّا أن يجهّز إلى يزيد بن معاوية، وإما أن يُمكّن أن يلحق بالثغور.
فكتب عمر إلى ابن زياد يسأل أن يجاب الحسين إلى أحد هذه الأمور، فاغتاط ابن زياد فقال: لا ولا كرامة، فأرسل مع شمّر بن ذي الجوشن، إلى عمر بن سعد إما أن تقاتل الحسين وتقتله، وتطأ الخيل جثته، وإمّا أن تعتزل، ويكون الأمير على الجيش شمر. فقال عمر بن سعد بل أقاتله، ونهض عشية الخميس، تاسع المحرم هذه السنة، والحسين جالس أمام بيته بعد صلاة العصر، فلما قرب الجيش منه، سألهم مع أخيه العباس، أن يمهلوه إلى الغد، وأنه يجيبهم إلى ما يختارونه فأجابوه إلى ذلك.
وقال الحسين لأصحابه، إني قد أذنت لكم فانطلقوا في هذا الليل، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم. فقال أخوه العباس: لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك، لا أرنا الله ذلك أبداً، ثم تكلم أخوته وبنو أخيه وبنو عبد الله بن جعفر، بنحو ذلك، وكان الحسين وأصحابه يصلون الليل كله، ويدعون، فلما أصبحوا، ركب عمر بن سعد في أصحابه، وذلك يوم عاشوراء من السنة المذكورة، وعبأ الحسين أصحابه وهم اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ثم حملوا على الحسين وأصحابه، واستمر القتال إلى وقت الظهر من ذلك اليوم، فصلى الحسين وأصحابه صلاة الخوف، واشتد بالحسين العطش، قتقدم ليشرب، فرُمي بسهم فوقع في فمه، ونادى شمر: ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه، فضربه زرعة بن شريك على كفه، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان ابن أنس النخعي بالرمح، فوقع فنزل إليه فذبحه واحتز رأسه، وقيل إن الذي نزل واحتز رأسه هو شمر المذكور، وجاء به إلى عمر بن سعد، فأمر عمر بن سعد جماعة فوطئوا صدر الحسين، وظهره بخيولهم.
ثم بعث بالرؤوس والنساء والأطفال إلى عبيد الله بن زياد، فجعل ابن زياد يقرع فم الحسين بقضيب في يده، فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب، فوالذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين، ثم بكى، وروي أنّه قتل مع الحسين من أولاد علي أربعة، هم العباس وجعفر ومحمد وأبو بكر، ومن أولاد الحسين أربعة، وقتل عدة من أولاد عبد الله بن جعفر، ومن أولاد عقيل.
ثم بعث ابن زياد بالرؤوس وبالنساء وبالأطفال، إلى يزيد بن معاوية، فوضع يزيد رأس الحسين بين يديه، واستحضر النساء والأطفال، ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم، وأن يبعث معهم أميناً يوصلهم إلى المدينة، فجهزهم إلى المدينة، ولما وصلوا إليها لقيهم نساء بني هاشم حاسرات، وفيهن ابنة عقيل بن أبي طالب وهي تبكي وتقول.
ماذا تقولونَ إنْ قالَ النبي لكم ** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ** منهم أسارى وصرعى ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ** أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

واختلف في موضع رأس الحسين، فقيل: جهز إلى المدينة ودفن عند أمه، وقيل دفن عند باب الفراديس، وقيل: أن خلفاء مصر نقلوا من عسقلان رأساً إلى القاهرة ودفنوه بها، وبنوا عليه مشهداً يعرف بمشهد الحسين، وقد اختلف في عمره، والصحيح أنه خمس وخمسون سنة وأشهر، وقيل حج الحسين خمساً وعشرين حجة وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة.
وأما عبد الله بن الزبير فإنه استمر بمكة ممتنعاً عن الدخول في طاعة يزيد ابن معاوية.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وسنة ثلاث وستين:
فيها اتفق أهل المدينة على خلع يزيد بن معاوية، وأخرجوا نائبه عثمان بن محمد بن أبي سفيان منها، فجهز يزيد جيشاً مع مسلم بن عقبة، وأمره يزيد أن يقاتل أهل المدينة، فإذا ظفر بهم، أباحها للجند ثلاثة أيام، يسفكون:
فيها الدماء، ويأخذون ما يجدون من الأموال، وأن يبايعهم على أنهم خوّل وعبيد ليزيد، وإذا فرغ من المدينة، يسير إلى مكة.
فسار مسلم المذكور في عشرة آلاف فارس من أهل الشام، حتى نزل على المدينة من جهة الحرة، وأصر أهل المدينة من المهاجرين والأنصار وغيرهم على قتاله وعملوا خندقاً واقتتلوا، فقتل الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، بعد أن قاتل قتالاً عظيماً، وكذلك قتل جماعة من الأشراف والأنصار، ودام قتالهم، ثم انهزم أهل المدينة، وأباح مسلم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، يقتلون:
فيها الناس ويأخذون ما بها من الأموال، ويفسقون بالنساء.
وعن الزهري أنّ قتلى الحرة، كانوا سبعمائة من وجوه الناس، من قريش والمهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من وجوه الموالي، وممن لا يعرف، وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، ثم إنّ مسلماً بايع من بقي من الناس على أنهم خوّل وعبيد ليزيد بن معاوية، ولما فرغ مسلم بن عقبة من المدينة سار بالجيش إلى مكة.
ثم دخلت سنة أربع وستين:
حصار الكعبة:
ولما فرغ مسلم من المدينة وسار إلى مكة كان مريضاً، فمات قبل أن يصل إلى مكة، وأقام على الجيش مقامه الحصين بن نمير السكوني، وذلك في المحرم من هذه السنة، فقدم الحصين مكة وحاصر عبد الله بن الزبير أربعين يوماً، حتى جاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، على ما سنذكره بعد رمي البيت الحرام بالمنجنيق، وإحراقه بالنار، ولما علم الحصين بموت يزيد، قال لعبد الله بن الزبير: من الرأي أن ندع دماء القتلى بيننا، وأقبل لأبايعك، وأقدم إلى الشام، فامتنع عبد الله بن الزبير من ذلك، فارتحل الحصين راجعاً إلى الشام، ثم ندم ابن الزبير على عدم الموافقة، وسار مع الحصين من كان المدينة من بني أمية، وقدموا إلى الشام.
وفاة يزيد بن معاوية:
وفاة يزيد بن معاوية بحوارين من عمل حمص لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، من هذه السنة، أعني سنة أربع وستين وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وكان مدة خلافته ثلاث سنين وستة أشهر، وكان آدم جعداً أحور العينين، بوجهه آثار جدري، حسن اللحية خفيفها، طويلا، وخلف عدة بنين وبنات، وكانت أمه ميسون بنت بحدل الكلبية، أقام يزيد معها بين أهلها في البادية، وتعلم الفصاحة، ونظم الشعر هناك في بادية بني كلب، وكان سبب إرساله مع أمه هناك، أن معاوية سمع ميسون بنت بحدل تنشد هذه الأبيات وهي:
للبس عباءة وتقر عيني ** أحبُّ إليَّ من لبس الشفوف

وبيت تخفق الأرياح فيه ** أحب إليّ من قصر منيف

وبكر تتبع الأظعان صعب ** أحبّ إلي من بغل زفوف

وكلب ينبح الأضياف دوني ** أحب إليّ من هر ألوف

وخرق من بني عمي فقير ** أحبّ إلي من علج عنيف

فقال لها معاوية: ما رضيت يا ابنة بحدل، حتى جعلتني علجاً عنيفاً، الحقي بأهلك فمضت إلى بادية بني كلب ويزيد معها.

.خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية:

وهو ثالث خلفائهم، ولما توفي يزيد بن معاوية، بويع بالخلافة ولده معاوية في رابع عشر ربيع الأول من هذه السنة، وكان شاباً ديناً، فلم تكن ولايته غير ثلاثة أشهر وقيل: أربعين يوماً، ومات وعمره إحدى وعشرون سنة، وفي أواخر أيامه جمع الناس وقال: قد ضعفت عن أمركم، ولم أجد لكم مثل عمر بن الخطاب لأستخلفه، ولا مثل أهل الشورى، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا من أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب فيه حتى مات، وقيل إنه أوصى أن يصلي بالناس الضحاك بن قيس حتى يقوم لهم خليفة.
البيعة لعبد اللّه بن الزبير:
ولما مات يزيد بن معاوية، بايع الناس بمكة ابن الزبير، وكان مروان بن الحكم مدينة، فقصد المسير إلى عبد اللّه بن الزبير ومبايعته، ثم توجّه مع من ترجّه من بني أمية إلى الشام، وقيل إن ابن الزبير كتب إلى عامله بالمدينة، أن لا يترك بها من بني أمية أحداً.
ولو سار ابن الزبير مع الحصين إلى الشام، أو صانع بني أمية ومروان، لاستقر أمره، ولكن لا مرد لما قدره الله تعالى، ولما بويع عبد الله بن الزبير بمكة، كان عبيد الله بن زياد بالبصرة، فهرب إلى الشام، وبايع أهل البصرة ابن الزبير، واجتمعت له العراق والحجاز واليمن، وبعث إلى مصر فبايعه أهلها، وبايع له في الشام سراً الضحاك ابن قيس، وبايع له بحمص النعمان بن بشير الأنصاري، وبايع له بقنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وكاد يتم له الأمر بالكلية، وكان عبد الله بن الزبير شجاعاً، كثير العبادة، وكان به البخل وضعف الرأي.

.خلافة مروان بن الحكم:

وهو رابع خلفائهم، وقام مروان بالشام في أيام ابن الزبير، واجتمعت إليه بنو أمية، وصار الناس بالشام فرقتين، اليمانية مع مروان، والقيسية مع الضحاك بن قيس، وهم يبايعون لابن الزبير، وجرت مقاولات وأمور يطول شرحها.
وقعة مرج راهط وآخر ذلك، أن الفريقين التقوا بمرج راهط، في غوطة دمشق، واقتتلوا، وكانت الكرة على الضحاك والقيسية، وانهزموا أقبح هزيمة، وقتل الضحاك بن قيس، وقتل جمع كثير من فرسان قيس.
ولما انهزمت قيس يوم المرج، نادى منادي مروان بن الحكم، ألا لا يتبع أحد، ودخل دمشق مروان، ونزل في دار معاوية بن أبي سفيان، واجتمع عليه الناس، وتزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، لخوفه من خالد.
ولما انهزمت القيسية وقتل الضحاك وبلغ ذلك أهل حمص، وعليها النعمان ابن بشير الأنصاري، خرج هارباً بامرأته وأهله، فخرج أهل حمص وقتلوا النعمان بن بشير وردوا برأس النعمان وأهله إلى حمص.
ولما بلغ زفر بن الحارث، وهو بقنسرين، يدعو لابن الزبير، خبر الهزيمة، خرج من قنسرين وأتى قرقيسيا، فغلب عليها، واستوسق الشام لمروان بن الحكم، ثم خرج إلى جهة مصر وبعث قدامه عمرو بن سعيد بن العاص، فدخل مصر وطرد عامل ابن الزبير عنها، وبايع لمروان بن الحكم أهلها، ولما ملك مروان مصر، رجع إلى دمشق، وخرجت سنة أربع وستين ومروان خليفة بالشام ومصر، وابن الزبير خليفة في الحجاز والعراق واليمن.
وفي هذه السنة أعني سنة أربع وستين هدم ابن الزبير الكعبة، وكانت حيطانها قد مالت من ضرب المنجنيق، فهدمها وحفر أساسها، وأدخل الحجر فيها، أعادها على ما كانت عليه أولاً.
ثم دخلت سنة خمس وستين:
وفاة مروان بن الحكم:
وتوفي بأن خنقته أم خالد بن يزيد بن معاوية زوجته، وصاحت مات فجأة، وذلك لثلاث خلون من رمضان، من هذه السنة، أعني سنة خمس وستين، ودفن بدمشق، وعمره ثلاث وستون سنة، وكانت مدة خلافته تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً.
شيء من أخباره كان النبي صلى الله عليه وسلم، قد طرد أباه الحكم، إلى الطائف، ولم يزل طريداً في أيام أبي بكر وعمر، إلى أن رده عثمان، كما ذكرنا، ومروان هو الذي قتل طلحة بسهم نشاب في حرب الجمل.

.خلافة عبد الملك بن مروان:

وهو خامس خلفائهم، لما مات مروان، بويع ابنه عبد الملك بن مروان، في ثالث رمضان من هذه السنة، عني سنة خمس وستين، عقب موت مروان، واستثبت له الأمر بالشام ومصر، وقيل إنه لما أتته الخلافة، كان قاعداً والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك.
ثم دخلت سنة ست وستين:
خروج المختار بن أبي عبيد الثقفي:
وفي هذه السنة، خرج المختار بالكوفة، طالباً بثأر الحسين، واجتمع إليه جمع كثير، واستولى على الكوفة، وبايعه الناس بها على كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بدم أهل البيت وتجرد المختار لقتال قتلة الحسين، وطلب شمر بن ذي الجوشن حتى ظفر به وقتله، وبعث إلى خولي الأصبحي، وهو صاحب رأس الحسين، فاحتاط بداره، وقتله وأحرقه بالنار، ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص، صاحب الجيش، الذين قتلوا الحسين، وهو الذي أمر أن يداس صدر الحسين وظهره بالخيل، وقتل ابن عمر المذكور، واسمه حفص، وبعث برأسهما إلى محمد بن الحنفية بالحجاز، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة، ثم إن المختار اتخذ كرسياً، وادعى أن فيه سراً، وأنه لهم مثل التابوت لبني إسرائيل ولما أرسل المختار الجنود لقتال عبيد الله بن زياد، خرج بالكرسي على بغل يحمله في القتال.
ثم دخلت سنة سبع وستين:
مقتل عبيد اللّه بن زياد:
وفي هذه السنة في المحرم، أرسل المختار الجنود لقتال عبيد الله بن زياد، وكان قد استولى على الموصل، وقدم على الجيش إبراهيم بن الأشتر النخعي، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت أصحاب ابن زياد، وقتل عبيد اللّه بن زياد، قتله إبراهيم بن الأشتر في المعركة، وأخذ رأسه وأحرق جثته، وغرق في الزاب من أصحاب ابن زياد المنهزمين أكثر ممن قتل، وبعث إبراهيم برأس ابن زياد، وبعدة رؤوس معه إلى المختار، وانتقم اللّه للحسين بالمختار، وإن لم تكن نية المختار جميلة.
وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وستين، ولى ابن الزبير أخاه مصعباً البصرة، ثم سار مصعب إلى البصرة، بعد أن طلب المهلب بن أبي صفرة من خراسان، فقدم إليه بمال وعسكر كثير، فسارا جميعاً إلى قتال المختار بالكوفة، وجمع المختار جموعه والتقيا، فتمت الهزيمة بعد قتال شديد على المختار وأصحابه، وانحصر المختار في قصر الإمارة بالكوفة، ودخل مصعب الكوفة وحاصر المختار، وما زال المختار يقاتل حتى قتل، ثم نزل أصحابه من القصر على حكم مصعب، فقتلهم جميعهم، وكانوا سبعة آلاف نفس، وكان مقتل المختار في رمضان سنة سبع وستين، وعمره سبع وستون سنة.
وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وستين للهجرة، وقيل سنة إحدى وسبعين، وقيل سنة تسع وستين، وقيل سنة ثمان وستين، توفي بالكوفة أبو بحر الضحاك بن قيس بن معاوية بن حصين بن عبادة، وكان يعرف الضحاك المذكور بالأحنف، وهو الذي يضرب به المثل في الحلم، وكان سيد قومه، موصوفاً بالعقل، والدهاء والعلم، والحلم والذكاء، أدرك عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يصحبه، ووفد على عمر بن الخطاب في أيام خلافته، وكان من كبار التابعين، وشهد مع علي وقعة صفين، ولم يشهد وقعة الجمل، مع حد الفريقين، والأحنف: المائل؛ سمي بذلك لأنه كان أحنف الرجل، يطأ على جانبها الوحشي، وقدم الأحنف المذكور على معاوية في خلافته، وحضر عنده في وجوه الناس، فدخل رجل من أهل الشام، وقال خطيباً، وكان آخر كلامه أن لعن علي بن أبي طالب، فأطرق الناس، وتكلم الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين، للعنهم، فاتق الله ودع عنك علياً، فقد لقي ربه، وأفرد في قبره، وكان والله الميمونة نقيبته العظيمة مصيبته، فقال معاوية: يا أحنف لقد أغضيت العين على القذى، فأيم الله لتصعدنّ المنبر ولتلعنه، وطوعاً أو كرهاً، فقال الأحنف: أو تعفيني فهو خير لك، فألح عليه معاوية، فقال الأحنف: أما والله لا نصفنك في القول، قال: وما أنت قائل، قال أحمد الله بما هو أهله وأصلي على رسوله وأقول: أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية، أمرني أن ألعن علياً، ألا وإن علياً ومعاوية اختلفا فاقتتلا، وادّعى كل منهما أنه مبغي عليه، فإذا دعوت فأمنوا. ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك ملك وجميع خلقك، الباغي منهما على صاحبه، والعن الفئة الباغية، اللهم العنهم لعناً كثيراً، أمنوا رحمكم الله. يا معاوية أقوله ولو كان فيه ذهاب روحي، فقال معاوية: إذن نعفيك من ذلك، ولم يلزمه به.
ثم دخلت سنة ثمان وستين:
فيها توفي عبد الله بن عباس بالطائف، وكان محمد ابن الحنفية مقيماً بالطائف أيضاً، فصلى على ابن عباس، وأقام محمد بن الحنفية بالطائف إلى أن قدم الحجاج بن يوسف إلى مكة، وكان مولد عبد الله بن عباس قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه الكلمة والتأويل، فكان كذلك، وكان يسمى الحبر، لكثرة علومه.
ثم دخلت سنة تسع وستين وما بعدها إلى سنة إحدى وسبعين:
مقتل مُصعب بن الزَّبير:
في هذه السنة، أعني سنة إحدى وسبعين، تجهز عبد الملك، وسار إلى العراق، وتجهز مصعب لملتقاه، واقتتل الجمعان، وكان أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك، وصاروا معه في الباطن، فتخلوا عن مصعب، وقاتل مصعب حتى قتل، هو وولده وكان مقتل مصعب بدير الجاثليق، عند نهر دجيل، وكان عمر مصعب ستاً وثلاثين سنة: وكان مقتله في جمادى الآخرة سنة. إحدى وسبعين.
وكان مصعب صديق عبد الملك بن مروان قبل خلافته، وتزوج مصعب سكينة الحسين، وعائشة بنت طلحة، وجمع بينهما في عقد نكاحه.
ثم دخل عبد الملك الكوفة وبايعه الناس، واستوسق له ملك العراقين.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين:
فيها جهز عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي في جيش إلى مكة، لقتال عبد الله بن الزبير، فسار الحجاج في جمادى الأولى من هذه السنة، ونزل الطائف، وجرى بينه وبين أصحاب ابن الزبير حروب، كانت الكرة فيها على أصحاب ابن الزبير، وآخر الأمر أنه حصر ابن الزبير بمكة، ورمى البيت الحرام بالمنجنيق، ودام الحصار حتى خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين، والحجاج محاصر لابن الزبير، وأبى ابن الزبير أن يسلم نفسه، وقاتل حتى قتل، في جمادى الآخرة، من هذه السنة، بعد قتال سبعة أشهر، وكان عمر ابن الزبير حين قتل نحو ثلاث وسبعين سنة، وهو أول من ولد من المهاجرين بعد الهجرة، وكانت مدة خلافته تسع سنين، لأنه بويع له سنة أربع وستين، لما مات يزيد بن معاوية، وكان عبد الله بن الزبير كثير العبادة، مكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره.
وفي هذه السنة، بعد مقتل ابن الزبير، بويع لعبد الملك بالحجاز واليمن، واجتمع الناس، على طاعته.
وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث وسبعين، توفي عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وكان موته بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وعمره سبع وثمانون سنة.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين:
فيها هدم الحجاج الكعبة، وأخرج الحجر عن البيت، وبنى البيت على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على ذلك إلى الآن، واستمر الحجاج أميراً على الحجاز.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين:
فيها أرسل عبد الملك إلى الحجاج بولاية العراق، فسار من المدينة إلى الكوفة، وخرج في أيام ولاية الحجاج العراق شبيب الخارجي، وكثرت جموعه، وجرى له مع الحجاج حروب كثيرة، آخرها أن جموع شبيب تفرقت، وتردّى به فرسه من فوق جسر، وسقط شبيب في الماء وغرق، وكذلك خرج على الحجاج، عبد الرحمن بن الأشعث، واستولى على خراسان، ثم سار إلى جهة الحجاج، وغلب على الكوفة، وكثرت جموعه وقويت شوكته، وفي ذلك يقول بعض أصحابه:
شطب نوى من داره بالإيوان ** إيوان كسرى ذي القرى والزنجان

من عاشق أضحى بزابلستان ** إن ثقيفاً منهم الكذابات

كذابها الماضي وكذاب ثان ** إنا سمونا للكفور الفتان

حتى طغى في الكفر بعد الإيمان ** بالسيد الغطريف عبد الرحمن

سار بجمع كالدبا من قحطان ** بجحفل جم شديد الأركان

فقل الحجاج ولي الشيطان ** يثبت لجمع مذحج وهمذان

فإنهم ساقوه كأس الديفان ** وملحقوه بقرى ابن مروان

ثم أمد عبد الملك الحجاج بالجيوش من الشام، وآخر الأمر أن جموع عبد الرحمن تفرقت، وانهزم، ولحق بملك الترك، وأرسل الحجاج يطلبه من ملك الترك، ويتهدده بالغزو إن أخره، فقبض ملك الترك على عبد الرحمن المذكور، وعلى أربعين من أصحابه، وبعث بهم إلى الحجاج، فلما نزل في مكان في الطريق، ألقى عبد الرحمن نفسه من سطح فمات.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وما بعدها إلى إحدى وثمانين:
فيها توفي أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب، المعروف بابن الحنفية.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين:
فيها توفي المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وكان من الأجواد المشهورين بالكرم والشهامة، وكان الحجاج قد ولى المهلب خراسان، ومات المهلب بمرو الرود، واستخلفَ بعده ابنه يزيد بن المهلب، ولما دنت من المهلب الوفاة، أحضر السهام لأولاده وقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا قال أتكسرونها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال هكذا أنتم.
وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثمانين توفي خالد بن يزيد بن معاوية، وكان من المعدودين في بني أمية بالسخاء والفصاحة والعقل.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين:
فيها بنى الحجاج مدينة واسط.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وسنة خمس وثمانين:
فيها أعني سنة خمس وثمانين، توفي عبد العزيز بن مروان بمصر.
ثم دخلت سنة كست وثمانين:
وفاة عبد الملك بن مروان:
وفي منتصف شوال، من هذه السنة، توفي عبد الملك بن مروان وعمره ستون سنة، وكانت مدة خلافته، منذ قتل ابن الزبير، واجتمع له الناس، ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر، تنقص سبع ليال، وكان شديد البخر، وكنّي لذلك بأبي الذبّان، وكان يلقب لبخله برشح الحجر، وكان حازماً، عاقلاً، فقيهاً، عالماً، وكان ديناً، فلما تولى الخلافة استهوته الدنيا، فتغير عن ذلك، وفيه يقول الحسن البصري، ماذا أقول في رجل، الحجاج سيئة من سيئاته.